يريد دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الجديد “إنقاذ أمريكا” عن طريق إحياء الصناعات التي أتت على معظمها نار المنافسة الصينية والمكسيكية والأجنبية الأخرى. ويأتي في مقدمتها الحديد والصلب والسيارات والفحم الحجري والنفط الغاز. ترامب يرى أن العولمة واتفاقيات التبادل التجاري الحر وراء تدهور الصناعة الأمريكية التي أفل نجمها في السوق العالمية لصالح الصين واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية ودول آسيوية أخرى.
وعليه فإن أول ما سيقوم به بعد توليه مقاليد السلطة هو الانسحاب من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي التي تضم 11 دولة بينها اليابان والمكسيك وكندا. كما يعتزم العمل على إلغاء الاتفاقيات المماثلة التي تقضي بحرية التجارة وتدفق البضائع دون رسوم جمركية بهدف حماية المنتج الأمريكي من المنافسة الأجنبية. ومما يعنيه ذلك فشل مشروع الشراكة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي TTIP. ومن أولوياته أيضا إلغاء جميع القرارات التي تحد من استخراج النفط والغاز والفحم الحجري، إضافة إلى تقليص التشريعات البيروقراطية وتخفيض الضرائب لجذب رؤوس الأموال وتسهيل إقامة الشركات أو عودتها إلى السوق الأمريكية. هل يعيد ترامب إحياء الصناعة الأمريكية؟ أعلن ترامب عن أفكار كثيرة في مجال الاقتصاد من أبرزها إحياء الصناعات الثقيلة والتحويلية وإلغاء القرارات التي اتخذتها الحكومات السابقة لدعم الطاقات المتجددة.
وبدلا من ذلك أعلن عزمه على تشجيع الطاقات التقليدية وفي مقدمتها النفط والغاز والفحم الحجري على أساس أن هذه التشجيع إضافة إلى إعادة إحياء الصناعة سيحقق معدلات نمو عالية وسيخلق أكثر من 4 ملايين فرصة عمل في مختلف القطاعات الاقتصادية. ومن شأن ذلك تعبيد الطريق أمام “أمريكا قوية من جديد” إلى الساحة الاقتصادية العالمية. غير أن المنافسة الحامية الوطيس في السوق العالمية تثير الشكوك في إمكانية تطبيق أفكار ترامب وهذا ما يراه أيضا الكثير من الخبراء في هذا السياق يطرح نفسه السؤال، كيف يمكن لصناعة السيارات والأدوات المنزلية الأمريكية والتحويلية الأخرى التي تحتاج إلى عمالة كثيفة العودة إلى أسواق الدول المنافسة التي تقل تكاليف الإنتاج لديها بنسب تتراوح بين 15 إلى 30 بالمائة أو أكثر عن مثيلتها الأمريكية؟.
قسوة المنافسة الأجنبية كما أن الدول المنافسة قطعت أشواطا بعيدة في تطوير صناعاتها تقنيا وإلكترونيا مقابل الصناعات الأمريكية التي فقدت السباق في هذا المجال بعد تراجعها المخيف في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي لصالح قطاعي العقارات والخدمات المالية اللذان تضخما بشكل وهمي ليشعلا نار الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وسيزيد من صعوبة عودة الصناعات الأمريكية إلى الساحة العالمية ترجيح قيام الدول المعنية وفي مقدمتها دول الاتحاد الأوروبي باتخاذ إجراءات حمائية لأسواقها ردا على الإجراءات التي ينوي ترامب القيام بها.
ورغم ضخامة السوق الأمريكية الداخلية، فإن هذه السوق لن تكون كافية بمفردها لإحياء هذه الصناعات. أما الصناعات الاستخراجية التي ينوي ترامب التركيز عليها في مجال الطاقة التقليدية فلا تحتاج للعمالة الكثيفة وإنما لكثافة رأس المال واستخدام أجهزة ثقيلة بتقنيات عالية تعمل بشكل آلي أو إلكتروني. ماذا يخشى الأوروبيون؟ يخشى الأوروبيون أياما صعبة وعصيبة على علاقاتهم الاقتصادية مع الولايات المتحدة بعد تولي ترامب مقاليد السلطة، لاسيما وأن هذه العلاقات متشعبة ومترابطة في كل المجالات. ويدل على ذلك حجم التبادل التجاري الأمريكي الأوروبي الذي يصل إلى نحو 630 مليار يورو سنويا. ويزيد الفائض التجاري الأوروبي في هذا المجال على 120 مليار يورو يعود القسم الأكبر منها لصالح ألمانيا التي يزيد فائضها التجاري مع الولايات المتحدة على 50 مليار يورو سنويا.
وتبرز الخشية الأوروبية بشكل أساسي من رفع الرسوم الجمركية لحماية المنتج الأمريكي من المنافسة الأوروبية. وسيكون في مقدمة الصناعات المتضررة السيارات والصلب والبناء والكيماويات والأدوية. وعليه فإن البورصات الأوربية التي تتربع هذه الصناعات على رأس مؤشراتها تشهد تراجعا وضعف ثقة في التطورات الاقتصادية المحتملة بعد تسلم ترامب السلطة في يناير: كانون الثاني القادم 2017. هل نشهد تدهورا جديدا للنفط؟ بالنسبة لمعظم الدول العربية يعني تطبيق أفكار ترامب الذي يريد القيام بثورة تقنية وإنتاجية في قطاعات النفط والغاز والفحم الحجري زيادة ضخمة في كمياته المستخرجة وفي المعروض منه في السوق العالمية. ومن شأن ذلك في أحسن الأحوال بقاء أسعار النفط وعائداته منخفضة. وبذلك ستتراجع مداخيل هذه الدول وسيزيد عجز موازناتها الحكومية السنوية، لاسيما وأن هذه العائدات تشكل المصدر الأساسي أو الرئيسي للدخل في غالبية هذه الدول.
وفي حالة قيام حكومة ترامب بفرض رسوم جمركية على الصادرات إلى السوق الأمريكية، فإن الصادرات العربية من المنتجات النفطية وغير النفطية في هذه السوق ستتراجع في ظل صعوبة الحصول على أسواق جديدة. ويعود السبب في ذلك إلى ترجيح حصول ركود عالمي في حال أدت الاجراءات الحمائية الأمريكية المتوقعة إلى حروب تجارية بين القوى الاقتصادية الرئيسية في العالم بشكل يؤدي إلى انغلاق الأسواق على بعضها البعض ولو بشكل جزئي. الجدير ذكره أن التبادل التجاري العربي الأمريكي يتراوح بين 150 إلى 170 مليار دولار سنويا. وتعد الولايات المتحدة ثالث أهم الشركاء التجاريين للعالم العربي بعد الصين والاتحاد الأوروبي. العرب وتحديات السوق؟ رغم تزايد الشكوك في قدرة ترامب على تطبيق أفكاره بالشكل الذي أعلنه خلال حملته الانتخابية، فإن معظم التوقعات تذهب إلى أن التجارة العالمية ستشهد في عهده إجراءات انعزالية وحمائية. ومما يعنيه ذلك التركيز على إنعاش الطلب المحلي بهدف تحقيق معدلات نمو مقبولة. غير أن مثل هذا التركيز يثمر في الأسواق الكبيرة، وعليه يبقى السؤال هل تعود الدول العربية إلى إحياء منطقة التجارة العربية الحرة لمواجهة التحديات القادمة من خلال سوق أوسع من أسواقها الوطنية الصغيرة؟